كتابات

نصر حامد أبوزيد .. “دون كيشوت”في مواجهة “سلطة النص”

لا شيء استثنائي في تلك الملامح التي لا تخطيء العين انتمائها لـ”دلتا مصر”، وجه ممتليء اقرب ما يكون للاستدارة، عينان طيبتان، وابتسامة شبه مستقرة علي الوجه،ربما بفعل اتساع الفم،او انعكاسا لطيبة القلب..

في قرية قحافة الملاصقة لمدينة طنطا ولد  عام 1943طفل اسماه والده “نصرا” تيمنا بانتصار الحلفاء علي المحور في الحرب العالمية الثانية ، ــ وربما العكس كما قال هو ساخراــ،طفل ولد لأسرة فقيرة “من غمار الموالي”، ليعيش حياة متخمة بمعارك لم يسع لأغلبها، ليرحل بعد 67عاما من النضال في مواجهة “سلطة النص” وكل سلطة تريد الهيمنة علي العقل، دون ان تفقده المرارات ابتسامة “الفلاح المصري” المحب للحياة ..

ربما بدأ تكوينه الفكري بتفتح الوعي علي فكرة “الثورة” وهو في التاسعة من عمره، والانبهار بقائدها “اللواء محمد نجيب” الذي رد علي رسالة من الطفل نصر برسالة شكر وصورة موقعة ، وربما اثر فيه ما رآه وسمعه  كـ”شبل” في جماعة الأخوان، التي التحق بأشبالها عام 1954،  و “البوصلة ” التي اهداها له “الهضيبي” لعلها “تهديه” في حياة، لم يتخيل الاثنان ــ نصر ومرشد الجماعة ــ حجم الانواء التي ستشهدها لاحقا** ..

حفظه للقرآن مبكرا،واجادته لتجويده، وقيامه صبيا برفع الاذان الشرعي ،علي طريقة الاخوان،ثم ترقيه الصوري من شبل الي عضو ،وساعات حبسه القليلة مع اول اصطدام بين الدولة والجماعة ، ربما كانت عوامل عجلت بمرحلة اخري في حياته ..

( المعلومات عن  بداياته المبكرة من مقال لنصر أبو زيد بعنوان حياتي  نشره عام 2000 بمجلة أبواب)

مبكرا بدأ “ابوزيد” البحث عن هويته الخاصة،غادر “الاخوان ” الي غير ما رجعة،لم يتمكن من الالتحاق بالازهر لظروفه العائلية،فلم نخسر شيخا معمما، ولم يكلل مشروعه في شعر العامية بانطلاقة مناسبة ، وبقي “صلاح جاهين المحلة” مشروعا لم يخرج عن اطار المقهي الذي اجتمعت عليه يوما “شلة شباب”من مثقفي مدينة المحلة  التي عمل بها”فني لاسلكي”…

حتي تخرجه من قسم اللغة العربية ــ بكلية الاداب جامعة القاهرة ــ كـ”أول دفعته” وهو القادم من المدارس الليلية ، لم يكن نصر قد رسم مسارا واضحا لحياته،بخلاف تلك الرغبة والتصميم المدهشين علي الا تهزمه اقداره، والا ترسم له “سلطة الواقع ” حياة غير التي يرغبها، وليس غريبا بالطبع ان يرفض من شكلت قيمة “الثورة” محطة بداية الوعي،منطق الاستسلام .

التحق نصر بقسم الدراسات الإسلامية، معيدا ، علي غير ما تخطيط، وبترغيب من اساتذته الذين قالوا له ان القسم لا يوجد به معيدين بخلاف قسم النقد الادبي الذي كان يميل اليه ،او يعتقد ذلك ، لتبدأ رحلة “مواجهة ” انتقلت لاحقا من الاروقة الاكاديمية الي الشارع، بخلاف السائد والمعتاد .

مسيرته الفكرية التي بدأت لاحقا كانت اكثر وضوحا من نظيرتها الحياتية، فوهب نصر نفسه باحثا وكاتبا لفكرة “التأويل”، كمدخل للفهم ثم الانعتاق من ربقة سلطة النص، وفك ارتباط المقدس بالمنتج الثقافي لعصره .

كتب ابوزيد عن المعتزلة وابن عربي ، كونهما ــ الفرقة والرجل ــ من مؤصلي فقه التأويل، كما استعان بالسيموطيقا والهرمونيطيقا، لفك الاشتباك بين الإلهي والبشري في الخطاب الديني .

كان المجاز سلاحه للتأويل، بينما كانت خبراته الحياتية وفي مقدمتها فقد الأب والاعتماد علي الذات دافعا ليقين لا يتزحزح بقيمة الاستقلال الفكري ، وحرية الرأي..

عمل نصر “أكاديميا” بإجتهاد نادر علي تأصيل مشروعه الفكري،فقدم ما يزيد علي العشرين كتابا، عن الاتجاه العقلي في التفسير ، ونقد الخطاب الديني ، ومفهوم النص واشكاليات القراءة والتأويل ، فضلا عن عشرات المقالات، وقبل هذا وذاك اسهامه كمحاضر اكاديمي بجامعته الأم “القاهرة ” وجامعات أخري ..
لا يمكن اختزال منهج نصر ابوزيد في كونه منفتحا علي الاخر، او مقدسا لسلطة العقل باعتباره مناط التكليف فقط ، فقد بني الرجل ــ أو حاول ــ منهجا متكاملا لأعادة قراءة ومسائلة التراث، مستفيدا مما تركه المعتزلة ،وابن عربي تحديدا، واضعا “سلطة النص في مواجهة العقل” كما عنون أحد مقالاته.
وقدم نصر مقدمة لـ”منهج إسلامي جديد للتأويل” بدأه بطرح إشكالية تعريف الكلام الإلهي وعلاقته بالذات الإلهية ، وهي الإشكالية التي حفظها التاريخ باسم مشكلة او محنة “خلق القرأن”،وهي الفكرة التي دافع عنها المعتزلة ودفعوا اثمانا باهظة من اجلها.


واعتبر نصر ان خلوص الحاكم و المجتمع الإسلامي في القرن الثالث الهجري الي اعتبار عقيدة خلق القرأن بدعة وربما هرطقة، مقابل الانتصار لفكرة أن القرآن أزلي ،هو اول قرار سياسي بإغلاق باب الاجتهاد.
كما اعتبر أن غياب النقاش العلمي حول قضايا الفكر الديني كان ــ علي الأقل ــ احد عوامل السقوط الثاني لبغداد ، مكنيا عن سقوط منظومة حضارية كاملة ..
رصد نصر ابوزيد في منهجه محاولات التجديد،وما شابها من أخطاء او عثرات، وتوقف عند الامام محمد عبده “صاحب المحاولة الوحيدةفي التاريخ الإسلامي الحديث لصياغة لاهوت إسلامي ” حسب تعبيره .
ورفض نصر ما اعتبره “منهجا نفعيا في فهم النصوص الدينية” وحاور وناظر كثيرين علي شاطيء الفهم الاخر كالدكتور عمارة والمهندس محمد شحرور صاحب كتاب “الكتاب والقرآن” الذي جمعه به سجال فكري دار اغلبه علي صفحات مجلة ادب ونقد .
كان ممكنا ان تستمر الرحلة الفكرية لمجدد بحجم “ابوزيد” اكاديمية، او في دوائر اكثر اتساعا عبر الصحف والميديا ، دونما أزمات وفي اطارها كمجادلات فكرية،
يصنف الكتب ،وينشر المقالات ، ويحصد جوائز اكاديمية وفكرية متنوعة ، لولا محنة “التفريق ” التي الحقته بأساتذته من معتزلة القرن الثالث، حيث تقدم في العام 1993 ببحث للترقي الي درجة الاستاذية، رأي الدكتور عبدالصبور شاهين عضو لجنة الترقيات انه “كفر”، فقامت الدنيا ولم تقعد ،ورفع محام ما دعوي تفريق نصر عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس، ليقضي قاض اسقط التاريخ اسمه بتفريقهما، وتتسارع الاحداث ليجد الدكتور نصر نفسه مضطرا لمغادرة الوطن، والتنقل بين مناف ابرزها هولندا التي احتل في جامعتها مقعدا يحمل اسم “ابن رشد” احد فلاسفة التنوير في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وصاحب محنة اخري مع الجمود الفكري ..
في المنفي أصيب ابوزيد بفيروس غريب ــ أهو اليأس أو الحنين ؟!ــ ليعود الي الوطن مثقلا بالمرض والامل ، ويرحل بعد أسبوعين فقط الي حيث لا يمكن لأحد منع أفكاره من التحليق ..

مقال نشر في مجلة الهلال
يناير2020

أضف تعليق